علماء من عصرنا

الشيخ جاد الحق.. عزة العلماء وزهد العباد

الشيخ جاد الحق.. عزة العلماء وزهد العباد

بقلم د. أحمد زكريا

– إن من عباد الله أناساً اختارهم ليكونوا مصابيح هدى ومشاعل نور، تتوق الأرض لتراب أقدامهم، وتحن السماء إلى طلعتهم، فهم أناس سرائرهم كعلانيتهم بل أحلى.. وأفعالهم كأقوالهم بل أجلى.. ترتفع المناصب بهم.. وتبكي مر البكاء لفراقهم.. فهم يزينون الكراسي.. وهم أزهد الناس فيها.. يصدعون بالحق ولو كان مراً، لا يتملقون أحداً مهما كان على حساب دينهم وضمائرهم.

– ومن هؤلاء العظماء فضيلة الشيخ جاد الحق – رحمه الله رحمة واسعة – فقد كان الشيخ قوياً في الحق، زاهداً في الدنيا.. ضارباً المثل الصادق للعلماء الربانيين.

– وإليك أخي القارئ الكريم بعض الإشراقات من سيرته العطرة..

زهد الشيخ

– بلغ الشيخ في زهده مبلغاً عجيباً في هذا الزمان، والذي رأينا فيه البطون تنتفخ وتمتلئ .. والأرصدة تتضخم.. والقصور والشقق والسيارات تتعدد لأناس أقل قدراً من الشيخ بمراحل.

– فقد كان الشيخ يسكن في شقة متواضعة في المنيل، وكانت في الطابق الخامس، ولم يكن في العمارة مصعد (أسانسير).

– فكان الشيخ برغم سنه المتقدم ومرضه، وقدمه المصابة يصعد الخمسة أدوار، وعرض عليه الكثيرون شقة مناسبة لمكانة شيخ الأزهر، وهو بدرجة نائب رئيس وزراء، أو فيلا من الفلل الكثيرة التي يحصل عليها من لا يستحق.. فرفض الشيخ ومكث في شقته هذه حتى لقي الله تعالى فيها، حتى رق لحالة الدكتور بطرس غالي – الأمين العام للأمم المتحدة السابق – عندما زاره في شقته هذه.. وقالوا : ارحموا الشيخ.

– ولكن الشيخ برغم أن حكمة الله اقتضت أن تفتح له الدنيا أبوابها من سلطة وجاه ومال.. ولكنه كان عفيف النفس، زاهداً في الدنيا.. راضياً بما قسم الله له، فلم يحاول أن يستغل نفوذه لجلب مصلحة شخصية.. ولو حتى بناء بيت بسيط له ولأولاده، وظل في شقته المتواضعة حتى لحق بربه، ضارباً أروع الأمثال في الزهد الحقيقي، مجدداً سنة الزاهدين الأوائل.

الشيخ وجائزة الملك فيصل

– ولما حصل الشيخ على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام والمسلمين.. لم يأخذ منها لنفسه شيئا، بل أقام بها مجمعاً إسلاميا كبيراً في قريته، يضم معهداً أزهرياً، ومسجداً ومستشفى، خدمة لأهل قريته، وآثر أهله على نفسه رحمه الله.

الشيخ لا يأخذ غير راتبه

– وبلغ من زهد الشيخ وورعه، أنه كان لا يحصل من عمله إلا على راتبه فقط،ولا يحصل على أية حوافز، أو مكافآت، بل كان لا يحصل على أية ماديات مقابل أبحاثه وكتبه القيمة وكان يجعلها حسبة لله تعالى، فكان قانعا براتبه، يعيش هو وأولاده حياة الكفاف، ولو أراد الدنيا لكانت تحت قدمه.

أدب الشيخ وحكمته

– كان الشيخ عالما بحق، فأثر العلم فيه ظاهرا وباطنا، فكان عف اللسان، وقافا عند حدود الله، حكيما في تصرفاته يحسن التعامل مع كل الظروف، ومن ذلك هذا الموقف الذي حضرته بنفسي للشيخ رحمه الله، وكان في المسجد الأزهر إبان الحرب الصليبية على البوسنة والهرسك، وحضر مع الشيخ يومها الشيخ الكبير محمد الغزالي والدكتور عبد الصبور مرزوق والدكتور سالم نجم، وخطب الشيخ إسماعيل صادق العدوى خطبة عصماء هيجت الجموع, وأجرت الدموع من المآقي، وبعد الخطبة تحدث الشيخ الغزالي فأحسن الناس استقباله،ولما وقف الشيخ جاد الحق هاج الناس وماجوا وارتفعت الأصوات مطالبة بفتح باب الجهاد وأخذوا يهاجمون علماء الأزهر،فما رأيت الشيخ إلا حليما حكيما،فما أظهر غضبا،ولا ترك المسجد وخرج كما فعل غيره، وما تفوه بكلمة نابية ولا غليظة، بل وما تغير وجهه، وما زاد على قوله: اسمع.. تسمع، وظل يرددها حتى هدأ الناس، فتكلم الشيخ كلام العالم الحكيم الذي يعلم ما يدور بصدور المسلمين من حزن وألم على مصاب إخوانهم،وكيف لا وهو واحد منهم، وأخذ يبين موقف الأزهر من مناصرة المسلمين في البوسنة،ففهم الناس عنه، وهدأت نفوسهم، فوسع غضبهم بحلمه، وتحملهم بأدبه، فلم يسب ويلعن،كما يفعل غيره.

مواقف لا تنسى للشيخ

– كان للشيخ جاد الحق مواقف مشرفة في العديد من القضايا:-

– منها: أنه تمسك بموقف مؤتمر علماء المسلمين الذي عقد بالأزهر، وأفتي بأن فوائد البنوك من الربا المحرم، وطالب بالعودة إلى مبادئ الاقتصاد الإسلامي.

– كما رفض قرار الكونجرس الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وطالب أمريكا بمواقف عادلة تجاه العرب وإسرائيل، وأكد أن القدس إسلامية

موقف الشيخ من مؤتمر السكان

– وكان للإمام الأكبر موقف مشهود ومشرف من مؤتمر السكان الذي انعقد بالقاهرة نهايات عام 1994، فقد خاض الشيخ معركة شرسة ضد بعض البنود الواردة في مسودة إعلان مؤتمر القاهرة الدولي للسكان.

– ذلك المؤتمر الذي أراد أن يصدر عن القاهرة بلد الأزهر قرارات تناهض الأديان، وتعتدي على أفاق البشر وكرامة الإنسانية، مثل إباحة العلاقات الجنسية الشاذة بين الرجل والرجل، وبين المرأة والمرأة، وإباحة حمل العذارى الصغيرات والحفاظ على حملهن، وإباحة إجهاض الزوجات الشرعيات الحرائر، وغير ذلك. فقد تصدى الإمام الجليل لهذه البنود في بيان شامل صدر عن مجمع البحوث الإسلامية، بعد دراسة متعمقة لوثيقة المؤتمر باللغتين العربية والإنجليزية، فكان للبيان وما تبعه من البيانات فعل الزلزال الذي أجهض المؤامرة، بل إنه لما جاءه وزير السكان وقتها ليعرض عليه مسودة المؤتمر،صعق الشيخ لما قرأ المسودة، وقال له: أين يحدث هذا؟ في مصر بلد الأزهر؟، واتصل على الفور برئيس الجمهورية، وقال له هل توافق على الكفر؟،فقال الرئيس له: لا ولن أوافق إلا على ما يوافق عليه شيخ الأزهر.

فتوى تعويض المستأجر

– كانت فتواه هذه لها صداها الصاروخي في وجه الظلم الصريح الذي عم وباؤه مصر كلها،بشأن التعويض الجائر على إخلاء الأرض الزراعية، ورجوعها إلى صاحبها، إذ يرى المستأجر أنه شريك المالك في أرضه ويستحق بذلك النصف فيها، في سبيل أن يتركه لأصحابها، فجاءت هذه الفتوى لتحسم القضية من جذورها حسما صريحا،حيث قررت أن عقد الإيجار لا يعني ملكية العين المؤجرة،وأخذ نصف الثمن أمر محرم وهو من أكل أموال الناس بالباطل.. (راجع المجلد العاشر من الفتاوى الإسلامية، ص3564).

الشيخ ومسابقة ملكة جمال النيل

– لم يكن يخطر ببال أي مسلم غيور يعيش في أرض الإسلام والعروبة والأزهر أن يقرأ هذا الخبر البغيض،حين نشرته جريدة الأهرام المصرية تحت عنوان:”مسابقة لاختيار ملكة جمال النيل”،فقد نشرت ما ملخصه:”إن قدماء المصريين كانوا يقومون باختيار أجمل فتاة عذراء في مصر،ويلبسونها أفخر الثياب،ويلقونها في النيل،وعندما جاء العرب استبدلوا العروس بتمثال لعروس النيل،وفي هذا العام يتخذ الاحتفال مظهرا أكثر حيوية،ويفتح المجال أمام الفتيات من سن 15 -25سنة للاشتراك في مسابقة ملكة جمال النيل أمام لجنة التحكيم التي تقوم باختيار الفتاة الفائزة،وهذه الفائزة بهذا اللقب ستنطلق يوم 24 أغسطس أمام المرديان في موكب داخل مركب فرعوني، ثم مركب فيه 400 مدعو من مختلف الهيئات الدبلوماسية،ومن ورائهم خمسون مركبا شراعيا،حيث يسير هذا الموكب من المرديان إلى كوبري قصر النيل،وتبدأ المراسم المتبقية بإلقاء محافظ القاهرة الوثيقة،وتطلق الصواريخ،وتقفز العروس إلى النيل”.

– وما كاد هذا التخريف والنزق ينشر في الأهرام حتى صرخ فضيلته في مقال تحت عنوان: “أوقفوا هذا العبث فورا باسم وفاء النيل “،ولقد رأى الشيخ -رحمه الله،ومعه كل الحق -أن في هذا الطيش عودة إلى سوق النخاسة والرقيق وأن دعوة مصر،وهي بلد الإسلام، والعروبة،والأزهر لهذا البغض والفساد والمنكر ردة إلى جاهلية عمياء،لا تفرق بين حلال وحرام.

– فأي وثيقة هذه التي يلقيها المسئول الكبير في النيل مع العروس التي اشترط أن تجيد السباحة، وأن تلتقطها فرق الإنقاذ، أي إهانة للأنثى والمرأة بوجه العموم.

– ولماذا لم يكن رجلا الذي يلقى بدلا من العذراء عروس النيل،إنها خزعبلات وتخاريف جاهلية،وخلل عقلي،وقد كان هذا الرأي الحاسم من فضيلته كافيا للقضاء على هذه المهزلة في مهدها.

– وقد أثبت المؤرخون أن أسطورة عروس النيل هذه لم تحدث أصلا،وإنما هي أكذوبة اخترعها أصحاب عقل سقيم.

كلمة أخيرة

– ونحن إذا تصفحنا مواقف شيخنا -رحمه الله لاحتجنا إلى العديد من المقالات،ولكن حسبنا أن نبرز نموذجا مضيئا من علماء الأزهر الربانيين،وهم كثر بحمد الله،ففي تاريخنا الحديث نجد لأعلام الأزهر في الذود عن الحق والوقوف في وجه الباطل آيات رائعة يفوح منها الشذى العاطر، وتؤكد وراثة الأنبياء في قوم يخشون الله حق خشيته، ومن المؤسف أن هذه المواقف الخالدة -على كثرتها المشرفة- لم تجد من أحصاها في كتاب أو دونه في تاريخ، إذ أن الرهبة المرعبة من أصحاب النفوذ ساعدت على كتمان هذه المجابهات الصريحة، إلا ما تناثر على الأفواه من أحاديث تتخذ الحيطة الكاملة في تردادها وتداولها بين الناس، ومع هذا التكتم الصريح فقد وعت ذاكرة التاريخ مثلاً رائعًا لجماعة مؤمنة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر من العلماء الأفذاذ!

– وها نحن أولاء سطرنا في مقالنا بعض هذه الروائع الغالية ليعلم من لم يكن يعلم أن من علماء الأزهر من حملوا مشعل الحق في الدعوة إلى الله، فأثبتوا لذوي الإنصاف أن الروح القرآنية التي ألهمت سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، والأوزاعي، وابن حنبل، والعز بن عبد السلام -في القديم- هي نفسها الروح القوية التي سرت في نفوس علماء الأزهر في العصر الحديث،وشيخنا جاد الحق نموذجا صادقا لهؤلاء الأفذاذ -رحمهم الله تعالى – فقد واجهوا الباطل بلسان صدق مبين، وقد سجلنا بعض هذه المفاخر لا لنقول: أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع، بل لنقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.

– فرحمة الله على شيخنا الجليل والذي كان لسان حاله يقول:

فكيف تفرح بالدنيا ولذتها يا من يعد عليه اللفظ والنفس

لا يرحم الموت ذا جهل لعزته ولا الذي كان منه العلم يقتبس

إن الحبيب من الأحباب مختلس لا يمنع الموت بواب ولا حرس

– ولقد وافته المنية رحمه الله وفارق الدنيا بعد حياة حافلة بالخير والعمل الصالح في عام 1996.

– ونحن نسأل الله سبحانه أن يجزل له العطاء جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين.

– وليكن شعارنا دائما: الله أكبر فليرتفع صوت الأزهر.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى