كتابات

الرؤية السياسية للهجرة

الرؤية السياسية للهجرة

مقالات شرعية – عبد الستار المرسومي

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُتابِعُ بكل عناية ما يجري، وما يُحاك ضد المسلمين في مكة، واضعًا نُصبَ عينيه الأرض التي سيبني عليها الدولة التي يحلم بها، التي سيُقيم عليها شرع الله، والتي سينطلق منها إلى كلِّ بقاع الأرض لنشر ما جاءه من ربه تبارك وتعالى.

والهجرة هجرتان: هجرة إلى الحبشة، وكانت بدفعتَيْنِ[1]، وهجرة إلى يثربَ، والتي سُمِّيت بعدها بالمدينة، فهي (مدينة الرسول)، وهي تسمية أصولية بعد دخول النبي محمد صلى الله عليه وسلم إليها، أو هي (المدينة المنورة) وهي تسمية مُحدَثةٌ.

وتتشابه الدواعي السياسية للهجرتين في بعض الجوانب، وتختلف في جوانب أخرى، فأما أوجه التشابه بين الهجرتين فهي:

1- إنقاذ أتباع مشروع الإسلام من حَيْفِ وضَيْمِ وظلمِ وعذابِ وأذى واضطهادِ قريشٍ؛ ليكونوا بمكان آمن؛ من أجل أن لا يُفتنوا في دينهم؛ وحتى لا يكونوا مستضعفين في الأرض، ليس لهم حولٌ ولا رأيٌ ولا تأثير.

2- ضمان وجود مسلمين خارجَ مكة، بل وخارج جزيرة العرب، ففي حال تمكَّنتْ قريشٌ من اجتثاث وقتل المسلمين كافَّةً في مكة – وهو أمر كان من المحتمل أن يحصل في أي لحظة – فإن هناك من يحتفظ بالرسالةِ، وسيكمل المسيرةَ، ويحمل همَّ القضية، ويوصلها للناس؛ فهم أشبه ما يكونون بـ (خميرة) جاهزةٍ للمستقبل.

3- اليقين أنه لا مجال ولا طائلةَ من البقاء في مكةَ، وأن أهل مكة لن تنفعَ معهم بعدَ الآن الأساليبُ التقليدية المعروفة، وإن استمرارَ دعوتِهم بالتي هي أحسن لن يُجدِيَ شيئًا، ولن يتحقَّق معهم أكثر مما تحقق، فقد مضتْ معهم ثلاثَ عشرةَ سنةً، وليس من المعقول أن يستمرَّ الحال إلى ما لا نهاية، وأنه من الأصلح الخروج وتأسيسُ دولة الإسلام، ثم العودة بالجيش وفتحها فتحًا.

4- فتح آفاق جديدة وأراضٍ جديدة، داخل جزيرة العرب وخارجها، وفي ذلك دليل على عالمية المشروع الإسلامي؛ فهو ليس حكرًا للعرب بل للناس كافة.

أما أوجه الاختلاف بين الهجرتين فهي:

1- أن الهجرة إلى الحبشة للأسباب التي ذكرت، ولم تكنْ تتضمَّنُ مغزًى سياسيًّا، بينما حملت الهجرة للمدينة المنورة بين طيَّاتها هاجسًا سياسيًّا عظيمًا، هو التأسيس لولادة دولة الإسلام المنتظرة، وبناء المجتمع المسلم الذي يُطبِّقُ الشريعةَ الإسلامية كاملةً غيرَ منقوصة، وهو اختلاف جوهري؛ فشتان بين هذا وهذا!.

2- هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم للمدينة كان قد رآها في رؤيا، فهو يقول صلى الله عليه وسلم: ((رأيت في المنام أني أهاجرُ من مكة إلى أرض بها نخلٌ، فذهب وَهَلي[2] إلى أنها اليمامة أو هَجَر[3]، فإذا هي المدينة يثرب…)) [4].

فهجرتُه هو شخصيًّا صلى الله عليه وسلم غيرُ هجرة الآخرين، وستكون إذًا لأرضٍ عربية، فالنخل مشهور في الأرض العربية، حتى إن النبيَّ محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في أول الأمر لِيعرفَ على وجه اليقين إلى أي المدن سيُهاجر، فذهب تفكيرُه نحو الطائف، أو ربما اليمامة، ولكن المهمَّ في الأمر أن تفكيره لم يكن ليخرج خارج أرض جزيرة العرب.

3- المؤامرة التي عقدت في دار الندوة: حيث عَقدتْ قريشٌ لقاءً بمستوًى عالٍ للنظر في موضوع النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم شخصيًّا، الذي وصل بالنسبة لهم مرحلةَ الفراقِ والمفاصلة الدينية والسياسية، ولا بد من اغتياله بأي شكل من الأشكال!.

4- أما أهمُّ درس في سياسةٍ ما – في الهجرة أو في أي اتجاه كانت – هو اصطلاحٌ اختصَّت وانفردت به السياسةُ الإسلامية، هذا الاصطلاح لن يجدَه أحدٌ في قواميس السياسة الغربيَّة ولا الشرقيَّة ولا الرأسماليَّة ولا الاشتراكيَّة ولا الشيوعيَّة، والمصطلح هو: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40].

فحين تسقط في اليد كلُّ أسباب النجاة، وتغلق بالوجه كلُّ الأبواب، وحين يخذلك الصديق والرفيق والأرحام قبلَ العدو الحاقد اللئيم، ويتنكَّر لك القاصي والداني، وتُزرَع بطريق منهجك الجميل الألغامُ، ويجحدك مَن كان لك في يومٍ ما يد عليه، وحين تضيق عليك الأرض بما رَحُبت، ويبلغ قلبك محلَّ حنجرتك، وتشعر بحبل الموت يلتفّ كأفعى شرسة حول عنقك، وتظن أنك هالكٌ لا محالة، وحين تشعر أنك بين فكَّيْ وحش كاسر سيُطبِقان عليك في أية لحظة، وحين ترى النهار ظلامًا، والسبيلَ هلاكًا، والنجاة حلمًا، وقد سالت نحوك سيولُ الضَّنْك والشدة لتَفْتِكَ بك، وحين تسقط كلُّ الاعتبارات السياسية، ويُكشِّرُ عدوك عن أنياب بَشِعة لم ترَ مثلها في حياتك، وتتحول السياسة التي كان يُتفَيْقَهُ بها من فنِّ الممكن إلى برك الدماء والأشلاء في عالم من المستحيل، في هذه الظروف القاهرة لن ينفع أيُّ إجراء أو سبب للنجاة في ساعة تتلاشى عندها كلُّ سبل الفرار من الهلكة، هناك سوف تعلم يقينًا أنه لن ينفع سوى سبيل واحد للخَلاص هو الإيمان واليقين بـ ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، وستتدخل العناية الربانية بإذن الله، وتُهدَى إلى سواء السبيل.

لقد وُثِّقَ هذا المفهوم بشكل عملي؛ فتجلَّى بوضوح في رحلة الهجرة؛ حيث اقترب الأعداء من النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبِه في المسيرة والرحلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى كانوا قابَ قوسين أو أدنى منهما، يقول أبو بكر رضي الله عنه: “قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحتَ قدميه لأبصرنا، فقال: ((ما ظنُّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثُهما؟!!)) [5].

وقد أكَّد القرآنُ الكريم على أهمية هذا المفهوم في مسيرة الدولة والفرد؛ فيقول الله تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 40، 41].

كما اشتملت السنة النبوية على ما يؤكد هذا المفهوم؛ فعن سِنان بن أبي سِنان الدؤلي أن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أخبره أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأدركتْهم القائلة في وادٍ كثير العِضَاهِ[6]، فتفرَّقَ الناس في العِضاه يستظلُّون بالشجر، فنزل النبيُّ صلى الله عليه وسلم تحتَ شجرة، فعلَّق بها سيفَه، ثم نام، فاستيقَظَ وعنده رجلٌ وهو لا يشعرُ به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا اخترط سيفي، فقال: مَن يمنعُك؟ قلت: الله، فشام[7] السيف، فها هو ذا جالس)) [8].

وهو – أعني: مفهوم الإيمان بـ ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40] – ذاتُ الوسيلة التي أنقَذَ الله جل جلاله بها نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم يومَ حاولَ أحدُ رجال اليهود أن يرمِيَ بصخرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيقتُلَه فجاء جبريل عليه السلام فأخبره.

———————————————————————————————-

[1] هاجر من المسلمين الهجرة الأولى إلى الحبشة اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة؛ وهم: عثمان بن عفان، وهو أول مَن خرج ومعه زوجته رقية بنت رسول الله، وأبو حذيفة بن عتبة، وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبدالأسد، وامرأته أمُّ سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مَظْعون، وعامر بن ربيعة العنزي، وامرأته ليلى بنت أبي حَثْمَةَ، وأبو سبرة بن أبي رهم، وحاطب بن عمرو، وسهيل بن بيضاء، وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم، فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار، فبلغهم أن قريشًا أسلمت، وكان هذا الخبر كذبًا، فرجعوا إلى مكة، فلما بلغهم أن الأمر أشدُّ مما كان؛ فرجع منهم من رجع، ودخل جماعةٌ منهم مكة فلقوا مِن قريشٍ أذًى شديدًا، ثم أُذن لهم في الهجرة ثانيًا إلى الحبشة، فهاجر من الرجال ثلاثةٌ وثمانون أو اثنان وثمانون رجلاً، ومن النساء ثمان عشرة امرأةً، فأقاموا عند النجاشي على أحسن حال، وبقوا عنده بأمان، وعادوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عامَ فتحِ خيبرٍ بقيادة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

 [2] وَهَلي: ظني ورأيي.

[3] هَجَر: الطائف.

[4] صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام.

[5] صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب المهاجرين وفضلهم.

[6] العِضَاه: شجر عظيم ذو شوك.

[7] شام السيف: أعاده في غِمْده.

[8] صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة.

المصدر: شبكة “الألوكة نت”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى