تقارير وإضاءات

التعايش الديني في مصر الإسلامية.. مخطوطة تظهر شراء راهبين لعقارات وفقا للشريعة

التعايش الديني في مصر الإسلامية.. مخطوطة تظهر شراء راهبين لعقارات وفقا للشريعة

إعداد عمران عبدالله

توجد في صندوقين متواضعين يحتفظ بهما قسم الشرق الأدنى بمكتبة الكونغرس الأميركي، مئات من قصاصات الوثائق والمخطوطات العربية القديمة التي كتبت بخط اليد العربي في العصور الوسطى ثم ألقيت في صحراء أطراف وادي النيل بمصر وجرى استخراجها في القرنين التاسع عشر والعشرين لتباع في سوق الآثار القديمة والأنتيكات ولدى جامعي الوثائق والمؤسسات مثل مكتبة الكونغرس.
ويظهر في اثنتين من الوثائق والمخطوطات العربية التي تعود للقرن العاشر الميلادي -بعد قرابة ثلاثة قرون من الفتح الإسلامي لمصر الرومانية- سجل لمعاملة شراء عقاري تعود لراهبين مسيحيين هما: البابا بطرس والبابا بانيلا.

شراء عقارات
اشترى الراهبان عقارات في قرية تطون المصرية القديمة (المجاورة لقرية أم البريجات الأثرية، والواقعة جنوب محافظة الفيوم)، غير أنهما اختارا تسجيلها ضمن المؤسسة القانونية الإسلامية رغم إمكانية تسجيلها لصالحهما بحسب قواعد الكنيسة القبطية المعمول بها في ذلك الوقت.

وكانت أم البريجات المجاورة لتطون والواقعة على شاطئ بحيرة قارون منطقة مزدهرة في العصر اليوناني والروماني وتضم معبدا دينيا وآثارا قديمة وعثر بها على العديد من البرديات (السجلات القديمة المخطوطة على ورق البردي) باللغات اليونانية القديمة.

وتسجل القصاصات الورقية للمخطوطات القديمة والبرديات المصرية العديد من المعاملات القانونية والحياتية، بما في ذلك توثيق الزيجات الرسمية والضرائب والرسوم المدفوعة وحتى الرسائل الشخصية العادية المرسلة إلى الأقارب والأحباب في مصر بعد الفتح الإسلامي -منذ أوائل القرن السابع الميلادي وما بعده- وذلك بحسب أندرو برينر الأستاذ المساعد للتاريخ ومدير دراسات العالم الإسلامي في الجامعة الكاثوليكية الأميركية الذي كتب عن القصة في مدونة مكتبة الكونغرس غير الرسمية.

وتقدم القصاصات الورقية صورة مختلفة ومنفتحة عن التاريخ الديني لمنطقة توصف بأنها كانت ساحة للصراعات الطائفية والدينية.


مخطوطة قديمة بمكتبة الكونغرس  (مدونة مكتبة الكونغرس)
مخطوطة قديمة بمكتبة الكونغرس  (مدونة مكتبة الكونغرس)

وثيقة الراهبين
لم يكن بابا بطرس وبابا بانيلا قرويين مسلمين بل راهبين مسيحيين في دير يُدعى بستان جبل القلمون في الصحراء الغربية (“دير الأنبا صموئيل المعترف” حاليا الذي يضم أربع كنائس ومغارة الأنبا صموئيل المعترف، ويقع غرب مدينة العدوة في شمال محافظة المنيا حاليا).

وعلى بعد عشرات الكيلومترات من الدير -في مدينة تطون القديمة حيث كان الراهبان المسيحيان يشتريان عقارات- قرر بابا بطرس وبابا بانيلا تسجيل سندات الملكية (صكوك العقارات) وذهبا إلى محكمة محلية حيث كتب مسلم عالم بأحكام الشريعة الإسلامية السندات العربية التي نجدها في مكتبة الكونغرس اليوم.

وتبدو حقيقة أن الرهبان استفادوا من قوانين الشريعة الإسلامية لضمان حقوقهم وعقاراتهم لافتة للنظر بحسب الأكاديمي أندرو برينر الذي اعتبر أن الإسلام كان الديانة المهيمنة في مصر بالقرن العاشر الميلادي، لكن النظام الإداري آنذاك سمح لأي مجتمع ديني باستخدام قوانينه وعاداته الخاصة في إدارة شؤونه.

وبينما كانت للمسلمين محاكم للشريعة الإسلامية، كان لليهود المصريين محاكم حاخامية (حفظت سجلات الجالية اليهودية في العصور الوسطى بالقاهرة في الكنيس القديم ولا تزال قيد الدراسة من قبل المختصين اليوم).

وفي المقابل كان للمسيحية القبطية المنتشرة على نطاق واسع في مصر القديمة تقليد قانوني عريق وللكنيسة القبطية نظامها المدني وأعرافها القانونية.

وكان بإمكان الراهبين تسجيل صكوك عقاراتهما لدى الكنيسة القبطية خاصة أنهما اشتريا العقارات من قرويين مسيحيين غير أن الراهبين بابا بطرس وبابا بانيلا فضلا خدمات المؤسسات القانونية الإسلامية.


الراهبان سجلا عقاراتهما وفقا للشريعة الإسلامية  (مدونة مكتبة الكونغرس)  
الراهبان سجلا عقاراتهما وفقا للشريعة الإسلامية  (مدونة مكتبة الكونغرس)

أسباب خيار الراهبين
تتوفر العديد من الاحتمالات لدى الراهبين في اختيار تسجيل عقاراتهما وفقا لأعراف الشريعة الإسلامية بينها أن تكون لدى الراهبين فرصة أسهل بتسجيل الصكوك وفق النظام القانوني الإسلامي الذي يضمن حل كل نزاع محتمل بواسطة قاض رسمي معين من قبل الدولة.

ورغم هذا الاحتمال، لم يكن على بابا بطرس وبابا بانيلا التعامل مع الشريعة الإسلامية وقضاتها إذا لم يرغبوا في ذلك لكن ما بقي محفوظا في الوثائق التي بين أيدينا اليوم يشكك في الصور النمطية المعتادة في الغرب عن شرق أوسطي طائفي منقسم دينيا في ذلك الوقت.

وخلافا للصورة التي روجت لها فظائع داعش ضد الأقليات الدينية، يعطي التفاعل الاجتماعي والاقتصادي المدون في السجلات القديمة لمحة عن التعايش الديني في الشرق الأوسط القديم والمجتمعات العربية آنذاك.

وتقدم الوثائق نظرة أعمق للتاريخ، في عصور لم يجد فيها بابا بطرس وبابا بانيلا حرجا من التوجه إلى محكمة إسلامية لتسجيل معاملاتهما العقارية.

وينطبق الأمر نفسه على حالات أخرى لا حصر لها من التفاعل بين الأديان التي ميزت تاريخ الشرق الأوسط الإسلامي، بحسب برينر.

وتظهر مع هذا المثال قصاصات ورقية مودعة في مكتبة الكونغرس على بعد آلاف الأميال ومئات السنين، وجهة نظر مختلفة لتاريخ قديم غالبا ما يساء فهمه.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى