متابعات

البشير ناعياً عبد الماجد: شيخ صادق .. أمة في رجل وقارة في وطن

نشر الدكتور عصـــام أحمد البشيـر وزير الأوقاف والشؤول الإسلامية السوداني مقالا على صفحته الشخصية على موع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، ناعيا فيه الأستاذ صادق عبد الماجد المراقب العام للإخوان المسلمين بالسودان الأسبق الذي وافته المنية في 28 مارس الماضي، قال فيه:

شاءت الأقدار أن أكون خارج البلاد.. حين وفاته في رحاب جمعة رجب، شيعته جموعٌ غفيرة..

غادرنا (عن نيفٍ وتسعين عاماً مباركة) مودَّعاً بدموع المحبين، ودعوات الصالحين، وزفرات المحزونين..

وميضﹸﹸ توهّج على مدى عقود من الزمان، فملأ طباق السودان وفجاجها سناءً وسنىً، وروحاً وريحانا… ظلاًّ وارفاً، وبدراً منيراً، له من اسمه النصيب الأوفى، ومن لقبه الحوز الوافر..

وقَـلَّ أن أبصرتْ عيناك ذا لقبٍ *** إلا ومعناه إن فـكرتَ في لقبه

فإذا النجم الساطع قد هوى… وإذا الفيض المنشور قد طوى… وإذا الفارس المعلم قد ترجّل… وإذا النفوس قد تكدرت بحزن نبيل لمصاب جلل، وفقد فاجع.. لموت العلم الشامخ، والطود الأشم، والريح المرسلةَ بالخير.

وما تلك الجموع التي تقاطرت واحتشدت -كما بلغنا- لوداعه والترحم عليه إلا خير برهان على علو مقامه، وذروة سنامه في وجوه الفضل والصالحات.. فغدا قبره موعظة للصدور، كما كانت دنياه جسراً للعبور .

مررت بقبر ابن المبارك غدوة *** فأوسعني وعظا وليس بناطق

وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي *** غنيا وبالشيب الذي في مفارقي

ولكن أرى الذكرى تنبه عاقلا *** إذا هي جاءت من رجال الحقائق

ونشهد: إنه من رجال الرقائق والحقائق..

إن موت الأبرار الأطهار.. والأكياس الأخيار نقص للأرض من أطرافها.. فالرزية بفقدهم تنوء بحملها الجبال الراسيات.

وقدر النبلاء.. أن يعيشوا كباراً، ثم توافي المنية أجسادهم وتبقى أعمالهم شهادة صدق في الأخرين على نسج جهادهم وصبرهم..

وما كان قيسﹸﹸ هُـلْكُـه هُـلْـك واحدٍ *** ولكنّه بنيانُ قومٍ تهدَّما !

لقد لامني عند القبور على البكا *** رفيقي لتذراف الدموع السوافك

وقال أتبكي كل قبر رأيته *** لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك

فقلت له إن الأسى يبعث الأسى *** فدعني فهذا كله قبر مالك

 ولا ريب.. فإن المولى الكريم، البر الرحيم، قد جمع في شيخنا الصادق الصدوق من محاسن الخصال، وجميل السجايا، وتنوع المكارم، ما هو به خليق، وبمثله جدير .

نذر حياته لدينه.. فغدا مَبدأه ومبتغاه، ومصبحه وممساه، ورواحه ومغداه..

  • كان رجل دعوة وفكرة.. يذود عنها بالغالي والنفيس، والمهجة والروح.. بحكمة راشدة، وبصيرة متقدة، ووعى متفتحّ، وتوازن مسدّد.. يحرص على بناء المعنى والمبنى، ووحدة الصف، وائتلاف القلوب، وتعزيز المشترك، ورعاية حق الأخوة وأدب الخلاف .
  • وهو تجلية مكرمات، باسط الكفين، ندي الوجه، طلق المحيا، رقيق القلب، نقي السريرة، صافي الروح، حلو المعشر، كريم الخلق، خفيض الجناح باسم الثغر، عذب الحديث، هيناً ليناً، نائياً عن التكلف والتعقيد، بعيداً عن التظاهر والادعاء، تسبق العَبرة إلى عينيه إذا سمع أو رأى موقفا إنسانيا، يهتز خشوعا وتأثرا إذا ذكر الله والدار الآخرة، ولا يأنف أن يتعلم حتى من تلاميذه، يعترف لكل ذي موهبة بموهبته، لا يحسد ولا يحقد،يكره الظلم والتسلط على عباد الله ولسان حاله : “لا أحب أن أتسلط على أحد، ولا أن يتسلط عليّ أحد” .
  • وهو في هموم الأمة ومصائرها صاحب آيات، وسبّاق غايات، وجوّاب آفاق.. يعمل على حشد الطاقات وتعبئة الجهود.. في حركة دائبة، وعزيمة صادقة.. دفعاً لعزة الأمة، ورفـعـة لشأنها، ودحراً لخصومها، بأمل لا يعرف اليأس، ورجاء لا يقعده قنوط، ولسان حاله :

فإنْ تكن الأيامُ فينا تـقـلَّـبت *** بـبُـؤسى ونُعْـمَـى.. والحوادثُ تفعلُ

فما لَـيـَّـنتْ مـنَّا قناةً صَـليـبـةً *** ولا ذَلَّـلـتنـا للتي ليس تـَـجْـمُـلُ

ولكن.. رحلناها : نفوساً كريمـةً *** تـُحَـمَّـلُ ما لا يـُستطاعُ ؛ فـتَحملُ !

وَقَـيْـنا بحُسْنِ الصبـرِ منـَّا نفوسَنا *** فصَحَّت لنا الأعراضُ والناسُ هُـزَّلُ !

  • وهو صاحب حس مرهف.. يرقب مكايد العدو، فيجهر بالتعبير والتحذير.. ويتخذ من قلمه.. اتكاءةً على حدّ السكين، وقرون استشعار.. تنذر بالخطب القادم، وتستنهض الهمة الحضارية في دفع الأقدار بالأقدار .
  • كان منزله في حي الدومة آية تجسد وحدة العمل الإسلامي.. حيث يؤمه مختلف أطياف المجتمع في تناغم.. يغترفون من بحر علمه ولطيف معشره، دون حاجز من نَـفس، أو عقدة من فكر، أو تباعد من رأى .

جعل لهم جسراً للتواصل دون اعتبار لاختلاف المشارب وتنوع المذاهب . وهكذا دأبه وديدنه حتى مع أبنائه الشباب يتيح لهم فرصته للمشاركه بالحديث بتواضعه الجم وخلقه النبيل.. وأحسب أنه من الزعماء القلائل الذين جسّدوا -عملاً.. لا قولاً فقط- التعايش مع ظاهرة الاختلاف والتنوع العقدي والفكري والمذهبي التي يذخر بها السودان برحابة صدر وسعة أفق . وانظر إلى حاله مع الذين يخالفون مشربه كيف يقص عليك حواراته الماتعة معهم، ويختمها بابتسامته التي يفوح منها طيب عنصره وأصالة معدنه.. مجسداً شعار “التعاون في المتفق عليه، والتسامح في المختلف فيه”.. من خلال تواصله مع الجماعات الدعوية، والأحزاب السياسية، والهيئات النقابية، والزعامات القبلية.. وسائر مكونات المجتمع وأطيافه .

  • وهو رجل مقاصد ومآلات في فقه الوطن.. ضرب بسهمٍ وافـرٍ في مشروع الاستقلال والتحرر من ربقة الاستعمار، وفي جهود “إسلامية الدستور”، وفي تعزيز الثوابت الوطنية، وتحقيق السلم المدني، ودرء المخاطر عن البلاد.. مقدماً في هذا كله مثالاً زاكياً للدعوة في ارتباطها بالأصل واتصالها بهموم الناس ومعايشهم..
  • وكان في مساعيه كلها مدركاً الموازنات، وطبيعة المرحلة، ووجوه الابتلاء.. جاعلاً من إصلاح ذات البين، والتوفيق بين مختلف الرؤى وتجاذب المواقف شعاراً ودثاراً.. فكان حاضراً بحكمته، مقبولاً بشفاعته، مرجواً بصلاحه، منزولاً إلى دوحته بسداد رأيه الذي غدا ظلاًّ وارفاً يحنو به حنّو المرضعات على الفطيم .
  • أما بـره وفيض كرمه، وإسباغ أريحيته؛ فقد كان بحراً لا تكـدِّره الـدِّلاء، وتقصر عنه الـرِّشاء..

لبيبٌ.. أعان اللبَّ منه سماحـةٌ

خصيبٌ.. إذا ما راكب الـجَـدْب أوضعا

أدرك خيـرُه أهلَ الحوائج من الأيتام والأرامل، والفقراء والمساكين، وذوي المسغبة والحوائج والكوارث والبلاء.. فأسهم بنصيب وافر في تفريج الكروب وكشف المحن.

  • وهو ـ قبلُ.. وبعدُ ـ الإنسان الموصول بربه : خاشعا بذكر الله، وقافاً عند حدوده، معظماً شعائره وشرائعه، آخذاً بعزائم الأمور، محتاطاً لدينه ودنياه، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر في سماحة ويسر وهشاشة وبشاشة، مسارعاً في الخيرات، باذلاً في الصالحات..
  • وهو البر الرحيم بأهله وجيرانه وأرحامه وإخوانه، الموصول بشرائح مجتمعه كافة في السراء والضراء، في أنسه رواح، وفي لطفه سماح، يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، يأنس لجوامع الكلم، ودوحة العلم، ويلتمس الحكمة النافعة من أي وعاء خرجت.

كان ـ رحمة الله عليه ـ “أمة في رجل، ورجل في أمة”، “قارة في وطن، ووطناً في قارة” .

مضى طاهـرَ الأثواب.. لم تبق ليلةٌسقى الغيثَ غيثاً.. وارت الأرضُ شخصه وكيف احتمالى للغيوث صنيعـةً

غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبـرُ وإن لم يكن فيه سحابٌ ولا قَـطْـرُبإسقائها قبراً وفى لحده البحرُ !

لقد عاش الشيخ صادق حياته كلها حر الفكر والضمير، حر القلم واللسان، لم يعـبـِّـد نفسه لأحد إلا لربه الذي خلقه فسواه، لم يبع ضميره ولا قلمه لمخلوق كان.

لا يرد دعوة داع للخير صغيراً أو كبيراً أو شاباً.. سباقاً لكل أمر .

عرفناه كبيراً من حمله هموم الأمة.. يزرع الأمل في قلوب الناس، ويدفع عنهم الهم إن رآه في أعينهم.. يكون أحدهم متعباً فإذا ما التقى به ورأى البِـشْـر في محيـَّـاه زال عنه التعب، وجدد حياته..

هكذا الكبار: تفتقدهم الأرض.. وترحب بهم السماء !

إن هذه الحياة الحافلة والقمة السامقة حريٌّ أن تجد اهتمامها بالتوثيق والدراسة لتخرج إلى الأجيال نوراً يضئ وشعاعاً يهدي السائرين المدلجين إلى حين، وهو ـ بعدُ ـ من باب الوفاء للشيخ صادق والبر به..

وعهدنا بإخوتنا الكرام أن ينهضوا بهذا العبء عاجلاً غير آجل، ولعل ما تـَـمَـلَّى من تدافع الأطياف الغفيرة على جنازته والتقاء قلوبهم على محبته سانحة كريمة لجمع الكلمة حتى تؤدى دورها المبارك في عزة الإسلام ورفعة الوطن وهو ما تقر به عين الشيخ في قبره وأعين الحادبين على أداء الرسالة .

كما أطمع من والي الخرطوم أن يخلد ذكرى الشيخ الصالح صادق بإطلاق وقف على إحدى منارات التنمية بالخرطوم تعبيراً عن جهوده في ذاكرة الأجيال .

رحم الله شيخنا الإمام صادق، وأنزله منزلة الأبرار والصديقين، وجعل له لسان صدق في الآخرين، وأفاض عليه من شآبيب رحمته ورضوانه، وبارك في دعوته، وأخلف إخوانه ودعوته ووطنه خيراً.. وإنا لله وإنا إليه راجعون .

ودِّعا أيها الـحَـفِـيـَّـانِ ذاك الشخصَ واغسلاه بالدمع إن كان طُـهـراً

إن الوداع أيسـرُ زادِ وادفناه بين الحشَـى والفؤادِ.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى