كتاباتكتابات المنتدى

الإمام الأكبر جاد الحق علي جاد الحق .. القاضي الفقيه الزاهد

الإمام الأكبر جاد الحق علي جاد الحق

القاضي الفقيه الزاهد

 

بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)

 

لكل زمان رجاله الأوفياء، ومن هؤلاء الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، الإمام الأكبر جاد الحق علي جاد الحق الإمام شيخ الأزهر الثاني والأربعين الذي تمر اليوم(15 مارس) ذكرى رحيله. والذي يعد من أهم الشخصيات التي تولت منصبي الإفتاء والأزهر في تاريخ المؤسستين، لما تركه من بصمات واضحة في المؤسستين، وبما أرساه من قيم كادت تغيب عنهما، وما تركه من أعمال تدعو كل من يتبوأ أي من المنصبين أن يضع الإمام الراحل نصب عينيه وهو يقود أي منهما. خاصة أن تولي الإمام الراحل لهذين المنصبين جاء في مرحلة صعبة من تاريخ أمتنا العربية والإسلامية.

وهذا المقال يحاول أن يعطي صورة مختصرة لحياة الإمام ومؤلفاته، ويقف أمام أهم وأبرز أعماله خلال توليه  دار الإفتاء ومشيخة الأزهر الشريف.

 

المولد والنشأة

ولد الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، في قرية بطرة-مركز طلخا في محافظة الدقهلية، يوم 13 جمادى الآخرة سنة 1335 هـ الموافق  5  إبريل917م. لوالد معروف بالصلاح ومشهور بالأمانة بين أهل القرية. وحفظ القرآن المجيد في كتاب القرية، ثم التحق بالمعهد الأحمدي بطنطا حتى حصل على الثانوية الأزهرية. ثم التحق بكلية الشريعة والقانون بالأزهر الشريف، وحصل منها على شهادة العالمية مع إجازة في القضاء الشرعي عام 1954.

وقد عين الشيخ جاد الحق، فور تخرجه، موظفاً قضائياً بالمحاكم الشرعية في يناير 1964, ثم أميناً للفتوي بدار الإفتاء عام 1953 فقاضياً بالمحاكم الشرعية عام 1954, وفي عام 1956 عين قاضياً بالمحاكم بعد إلغاء ثورة يوليو للمحاكم الشرعية, ثم رئيساً للمحكمة عام 1971م .

وفي أغسطس 1978م عُين -رحمه الله- مفتياً للديار المصرية, وبعدها بعامين اختير عضواً بمجمع البحوث الإسلامية, وفي الرابع من يناير عام 1982م عُين وزيراً للأوقاف المصرية وبعدها بشهرين, وفي شهر مارس عام 1982م عين شيخاً للأزهر ليصبح الإمام الثاني والأربعين له.

 

مؤلفاته

لفضيلة الشيخ الجليل جاد الحق (رحمه الله) العديد من المؤلفات, وهي تناهز خمسة وعشرين مؤلفا، تتنوع موضوعاتها بين الكتب والرسائل الفقهية في موضوعات إسلامية وبحوث وفتاوي شرعية في قضايا معاصرة, ومن أشهر هذه المؤلفات:

الفقه الإسلامي مرونته وتطوره- بحوث فتاوى إسلامية في قضايا معاصرة-رسالة في الاجتهاد وشروطه- رسالة في القضاء في الإسلام- مع القرآن الكريم- النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن- الدعوة إلى الله- ونفس وما سواها- كتاب أحكام الشريعة الإسلامية في مسائل طبية عن الأمراض النسائية-كتاب بيان للناس. الطفولة في الشريعة الإسلامية-المسجد ورسالته في الإسلام.

 

القيادة في أجواء عاصفة

عاشت أمتنا العربية المسلمة خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين مرحلة دقيقة من تاريخها اتسمت: بشيوع الفرقة بين الأنظمة بعضها البعض، وبين الأنظمة ومعارضاتها، والاعتداء على مقدرات الأمة، والحروب التي جلبت المستعمر لأراضينا مرة جديدة(حروب الخليج)، وفشو تيار الغلو بين طائفة من الشباب، بجانب الغلو العلماني، وهجمة العولمة الثقافية على حياض الأمة وحصنها المتمثل في المرأة والأسرة والناشئة(الأنماط الاستهلاكية-صيحات تحرير المرأة). في هذه الأجواء تولى الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، أهم منصبين دينيين في مصر: مفتي الجمهورية(1982م) وشيخ الجامع الأزهر(1982-1996م)

 

المفتي

تميزت فترة توليه لمنصب الإفتاء، على قصرها، بالحركة والنشاط وتنظيم شئون دار الإفتاء. فقد عمل شيخنا الراحل على تنشيط الدار، والمحافظة على تراثها الفقهي، فقام باختيار الفتاوى ذات المبادئ الفقهية، وجمعها من سجلات دار الإفتاء المصرية، ونشرها في مجلدات بلغت عشرين مجلدًا، وهي ثروة فقهية ثمينة؛ لأنها تمثل القضايا المعاصرة التي تشغل بال الأمة في فترة معينة من تاريخها، وفي الوقت نفسه تستند إلى المصادر والأصول التي تستمد منها الأحكام الشرعية. وضمت المجلدات الثامن والتاسع والعاشر من سلسلة الفتاوى اختيارات من أحكامه وفتاواه، وتبلغ نحو 1328 فتوى في الفترة التي قضاها مفتياً للديار المصرية.

يقول جاكوب سكو فجارد بيترسون عنه، في كتابه عن مفتو وفتاوى دار الإفتاء “مع تعيين جاد الحق علي جاد الحق مفتياً عام 1978 دخلت دار الإفتاء المصرية حقبة جديدة من تاريخها، اتسمت بجهود حثيثة لإعادة تثبيت أقدامها كمؤسسة قديرة وفعالة مستعدة للنضال من أجل الاعتراف العام، ومن أبرز تلك الجهود إعادة تنظيمها ونشر نخبة من فتاويها في سلسلة: فتاوى إسلامية”[1]

 

الإمام الأكبر

كان تولي الإمام الراحل جاد الحق لمشيخة الأزهر، إيذاناً بعودة جديدة للأزهر حصناً للأمة ومعبراً عن آلامها وآمالها، ومدافعاً عن أبناء الإسلام في كل مكان، وذائداً عن حياض الإسلام كل دعي يحاول أن ينال من هذا الدين بجهل أو بسوء نية. وقد تعددت مواقف الإمام التي أعادت للأزهر كلمته، ومن أهمها

1-نصرة الأقليات المسلمة والاهتمام بها

أخذ إمامنا الراحل على عاتقه متابعة أحوال الأقليات المسلمة في كل مكان، ونبه المسلمين حكومات وأفراداً إلى ضرورة الاعتناء بإخوتهم في الدين ومؤازرتهم في محنهم، ومد يد العون لهم ليعضوا على إسلامهم بنواجذهم.

وقد اشتهرت مواقفه من العدوان الصربي علي المسلمين في البوسنة والهرسك. والذي اعتبره الإمام الراحل “حرب إبادة صليبية للمسلمين في البوسنة” . ويذكر أبناء جيلي دعوته لمؤتمر حاشد في الأزهر لمناصرة شعب البوسنة، ودعوة المسلمين للتبرع لهم، وتأييده للجهود الهادفة لجمع التبرعات ورعايته لها في جمع أموال كبيرة لإخواننا في البوسنة أثناء محنتهم، مستغلاً في ذلك هيبة موقعه، ورئاسته للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، وحسن علاقته بالرئيس المصري وقتها.

ويذكر له، أيضاً، موقفه في مناصرة المجاهدين في الشيشان, وتقديم الدعم المالي والمعنوي لهم, فقد أصدر–رحمه الله-بياناً حول تلك الحرب, حيث أكد أنه لولا تمسك شعب الشيشان بإسلامهم ما حاربهم الدب الروسي.

هذا بالإضافة إلى العديد من المنح الدراسية المجانية التي قدمها الأزهر الشريف تحت قيادته لأبناء البلدان الإسلامية المستضعفة حتي يعودوا لأوطانهم دعاة للإسلام.

2- القدس

ويعد موقفه من الدفاع عن عروبة وإسلامية مدينة القدس، ضد محاولات تهويدها وضد قرار الكونجرس الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس( والتي يعمل ترامب على جعله واقعاً اليوم).فقد أدان الإمام الراحل العدوان الصهيوني المستمر علي القدس, وأدان فيه القرار الأمريكي ورفض باسم الأزهر الشريف هذا القرار الظالم.

3-إحباط مقررات مؤتمر السكان

ومن أهم المواقف المشرفة، في تاريخ إمامنا الأكبر-رحمه الله- موقفه الحازم من مقررات المؤتمر الدولي للسكان والتنمية, الذي عقد في القاهرة عام 1994م، والذي كان محاولة لتطبيع الجنس بين أبناء الأمة، ودعوة للانفلات الأخلاقي عبر تمرير مفاهيم النوع (الجندر) التي تدعو للشذوذ وتقنين كل العلاقات الخارجة عن الطبيعة والشرع والهادمة لكيان الأسرة كنواة طبيعية للمجتمع.

فقدد أدرك الإمام-بمعاونة من التف حوله من علماء الأمة، هذه المحاولة، وأسرع يئدها في مهدها وأصدر الأزهر بالتعاون مع هيئات مسيحية رافضة لها بياناً قوياً يفند تلك المحاولة لهذا الشذوذ. وليس هذا وحسب، لكن الأزهر نشر تقريراً وافياً عن تلك المقررات مفنداً لها ولاتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة. وأهاب بالأمة الإسلامية عدم الالتزام بأي بند أو فقرة تخالف شريعة الله. مما جعل كل الدول الإسلامية المشاركة في المؤتمر-وعلى رأسها مصر المستضيفة للمؤتمر- تسارع بالموافقة على بيان الأزهر.

4- نهضة الأزهر

لقد شهد الأزهر الشريف في عهد الإمام الراحل نهضة كبيرة لم يشهدها في عهد من قبله، بشهادة المنصفين من معاصريه. فقد انتشرت المعاهد الأزهرية ولجامعة الأزهر في كل أنحاء مصر. بل، وانتشرت في شتي بقاع العالم الإسلامي, فأنشأ معاهد أزهرية تخضع لإشراف الأزهر في تنزانيا وكينيا والصومال وجنوب أفريقيا وتشاد ونيجيريا والمالديف وجزر القمر.. وغيرها من البلدان الإسلامية.

وفي عهده، عقدت لأول مرة مؤتمرات دولية في قضايا طبية وزراعية وثقافية مهمة تحدد رأي الأزهر والإسلام فيها. بالإضافة لتحويله الجامع الأزهر الشريف إلي مدرسة مسائية للرجال والنساء ولنشر الثقافة الإسلامية الرفيعة, ولتوضيح حقائق الدين السمحة البعيدة عن التعصب والتشرذم والداعية للحب والسلام علي شكل مركز مفتوح للدراسات الإسلامية, ويتم فيها تدريس جميع فروع العلوم الإسلامية.

وعن نهوضه بالأزهر يقول القاضي الجليل طارق البشري” لم يكن الأزهر يوم استلمه بمثل نفوذه وعصمته يوم تركه، في ظني أنه في الخمسين سنة السابقة عليه، وفيما عدا الشيخ عبد الحليم محمود، لا أجد شيخا للأزهر قام بهذا الدور الكبير. هذا الشيخ جاد الحق رحمه الله، وضعته المقادير على رأس مشيخة الازهر في ظرف تاريخي  مما  لما أحدق بالأزهر عندما بلغ النفوذ الاستعماري ذروته، وعمل على الهيمنة على الأزهر ومؤسسات الفكر الإسلامي. فأدرك عمق المهمة التي ألقت بنفسها إليه، دفاعا عن الإسلام ومعتقداته، وتجلية لحقائقه وأحكامه، وزدا عن حقوق المسلمين في أنحاء الأرض البشري”[2]

من كلماته

  • ليت المدرسة في بلاد المسلمين تنجح في تأصيل قيم الإسلام في نفوس النشء تأصيلاً تغدو معه قلوبهم قادرة على استشفاف المقدس في الكون، أو في أعمال الإنسان.
  • إن فورة الشباب تحتاج إلى من يكبح جماحها، وإن التطلعات والآمال التي تمتلئ بها قلوبهم، تحتاج إلى حكيم يعرف كيف يرسم لها الخط الذي تسير فيه، حتى تتحقق الآمال والتطلعات.
  • إصلاح المجتمع ليس مهمة فرد واحد، أو هيئة واحدة، أو جماعة مخصوصة: فالكل متضامن وعليه واجب يؤديه بقدر استطاعته في المنزل والمدرسة والمصنع والحقل والمتجر والديوان والنادي. وليس من الدين أن يتملص أحد من المسئولية ويلقيها على الغير.
  • إنه لمن الخير لمن يفتي في الحلال والحرام، أن يتثبت مما يقول حتى لا يوقع الناس في خطأ في الدين.
  • المسجد أول مدرسة في الإسلام، تبني الأجيال، وتصنع الأبطال، وتعدهم خير إعداد .وعن طريقه يقوم كيان الأمة الروحي، كما أنه الأساس لدعم وجودها المادي.
  • ارتفعوا أيها الدعاة عن اللدد واللجاجة فيما لا نفع فيه للناس في دينهم ودنياهم.
  • ارصدوا الجوائز لحفظ القرآن الكريم، وتحفيظه لأبنائكم وبناتكم ونسائكم وكونوا قدوة لهم في استفتاح يومكم بتلاوة ما تيسر منه، فهو وحي ربكم.

 

خاتمة

توفي الإمام الراحل قبيل فجر الجمعة 25 من شوال1461ه- الموافق 15 مارس 1996م، بعد أن أدى رسالته على أفضل وجه في ظل البيئة والظروف التي عاش فيها. وخرج من الدنيا، عالماً عالي القامة رفيع المقام، زاهداً لم يتكسب من منصبه شيئاً، ولم تشب حياته في مناصبه شائبة، كدأب العلماء الصالحين المصلحين في تاريخنا.

فقد صبغت شخصية القاضي الفقيه الإمام الأكبر بصبغتها، فأعطته قوة في دين، وحكمة في يقين، وسلاسة في القيادة في غير لين، واكسبته مهابة وحنكة وحكمة في تدبير شئون الأزهر والقيام بمهام الدعوة والذود عنه وعنها في ظل البيئة التي عاش فيها.

ويتبقى لنا، اليوم، الكثير  لنتعلمه من سيرة الإمام الراحل، ويتعلمه كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ممن يؤمنون بالله، ويعملون لتكون أمة الشهادة خير أمة أخرجت للناس: يتبقى منه الاعتزاز بإسلامه، واستقامة العالم وزهده وقوته في الحق، وعدم إعطائه الدنية في دينه، وكياسته في التعامل مع المستجدات والملمات، وجماعيته في العمل، واستعانته بكل من يمكنه أن يقدم للإسلام ويذود عن حياضه.

يتبقى منه نموذج العالم القائد لمؤسسة عريقة، نقلها من مرحلة الضعف والهوان، إلى مرحلة القوة والتمكين، وأداء دورها في وسط واصف عاتية ورياح مهلكة قوية.

رحم الله الإمام الأكبر جاد الحق علي جاد الحق رحمة واسعة

 

_________________________________________________________________

[1] إسلام الدولة المصرية: مفتو وفتاوى دار الإفتاء، ص293[1]

[2] شخصيات وقضايا معاصر، ص115-116

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى