الإسلام .. والنظام العالمي (1-3)

الإسلام .. والنظام العالمي (1-3)

بقلم د. أحمد الرفاعي

إن حاجة الناس إلى نظام عالمي، يُقيم حياتَهم على العدل والأمن والرخاء والسلام، مطلب قديم، تحدث بشأنه الفلاسفة والمصلحون عبر الزمان، تصوره أفلاطون في مدينته الفاضلة.. وتنادى العرب في جاهليتهم إلى حلف ينصرون به المظلوم، ويضعون حدًا للظلم والجور في مجتمعاتهم.. وجاء الإسلام فَلَبّىٰ حاجةَ فطرة الإنسان وحقَّق للناس أحلامهم، ووضع لذلك قواعد ومبادئ وقيم وأصل سلوكيات وأدبيات، وعاش الناس في ظل ذلك قرونًا عديدة ينعمون بالأمن والرخاء والسلام والعدل.. وحدث خلل.. وحجب الإسلام عن حياة الناس.. فكان اضطراب كبير في الأرض.. وأشعلت حروب أكلت الأخضر واليابس .. مما فرض على صناع القرار في دمارها وأهوال فعلها.. أن يتنادوا إلى نظام يجنب البقية الباقية من الأرض ويلات ما اقترفته أيديهم.. فكانت عصبة الأمم.. التي تطور شأنها إلى هيئة الأمم المتحدة لتكون الإطار المؤسسي للنظام العالمي يومئذ .. ووُضِعَتْ لهذه الهيئة أسس وهي :

       المساواة، وحب السلام، والعضويّة المفتوحة للجميع.. وفي إطارها وضع ميثاق الأمم المتحدة.. الذي استدرك على قيمه ومبادئه أصحاب التحكم بموازين القوى، فقيدوا فاعليتَه، ووأدوا خيريته بما ميزوا به أنفسهم من حق سموه (حق الفيتو) الذي أعطاهم حق رفض الحق إذا تصادم مع أهوائهم ومصالحهم.. وعاش الناس مع هذا الخلل الكبير على أمل الإصلاح والتغيير إلا أن الزمن أخذ يؤكد للجميع، أن هذا النظام مُعَطَّلٌ ولا يُلَبِّي حاجات الناس بالأمن والسلام… وأعلن ذلك رسميًا بقرار مشهور للأمم المتحدة اتخذته في دورتها لعام 1974 جاء فيه أن النظامين السائدين (الشيوعية والرأسمالية) عاجزان عن تحقيق الأمن والعدل والسلام بين الناس، ولابد من نظام عالمي جديد يحقق للناس آمالهم وينهي آلامهم.. ويحقق لهم الأمن والعدل والسلام.. وفي الدورة التالية أي عام 1975 طلب إلى اليونسكو باعتبارها المؤسسة الثقافية المعنية بمثل هذا الأمر، لتضع تصورًا لنظام عالمي يحل محل النظامين السائدين والمتحكمين بميثاق وقرارات الأمم المتحدة.. وبذلت اليونسكو جهدها وأجرت اتصالات مع جهات دولية وثقافية في العالم تطلب المساعدة في وضع هذا التصور، ثم قدمت مذكرتها للأمم المتحدة في عام 1977 عبر تقرير مفصل يقوم على أسس ثلاث للتصور المقترح للنظام العالمي جاء فيها:

       1- وجوب الاعتراف بوحدة الأسرة البشرية وحقها في التعايش بأمن وسلام.

       2- العمل على تطوير مشترك للتنمية بما يحقق انتعاشًا اقتصاديًا للجميع.

       3- إحقاق عدالة التوزيع في الأرض.

       إلا أن الأمم المتحدة وجدت نفسها عاجزة عن التعامل بجدية مع هذه المبادئ بسبب من الحرب الباردة الدائرة بين المعسكرين المتصارعين، الشيوعي والرأسمالي، والتي كان من وسائلها، التحاور المباشر حول مشروع للتعايش السلمي، أخذ شيئًا من الجدية مع مجيء الرئيس جوربانشوف لزعامة الاتحاد السوفيتي، حيث تحققت خطوات إيجابية في هذا الصدد، إلا أن تفاقم الأزمة الداخلية في الاتحاد السوفيتي وانهيار إمبراطوريته بالشكل المعروف، قد قلب موازين القوى الدولية وأحدث تغيرات واسعة في البنية الدولية ومعادلاتها الإقليمية والعالمية، وجاءت حرب الخليج عقب احتلال العراق لدولة الكويت، لتعزز توجهات ذات دلالة في العلاقات الدولية، ولدت مناخًا عامًا، أوحى لدى أوساط عالمية متعددة بأن الولايات المتحدة تسعى لأن تكون الأقوى في اتخاذ القرارات الدولية، وأن الظروف أصبحت مهيئة لزعامة القطب الواحد في العالم وأعلن الرئيس بوش تصريحاته حول النظام العالمي الجديد.. إلا أنه لم تصدر أي توضيحات أو تفسيرات تبين أبعاد ومفاهيم وتصورات شكل ومضمون النظام العالمي هذا .. مما ترك فرصة كبيرة أمام الاجتهادات الفردية لتحديد المفاهيم والأسس التي يمكن أن يقوم بها النظام العالمي الجديد، ومما أدى إلى كم هائل من الدراسات والمقترحات لدى جميع الأوساط الثقافية والمعرفية في العالم حول هذا الموضوع وما ينبغي له.. وفي إطار ذلك تبلور اتجاهان.. اتجاه متفائل وآخرمتشائم، كما أنه برز تيار ثقافي في الغرب، يقدم الإسلام والمسلمين على أنهم العدو الأخطر على الحضارة الغربية وسيادتها، بعد سقوط المعسكر الشيوعي.. إلا أنه في المقابل هناك تيار آخر في الغرب، ولو أنه أقل فاعلية، إلا أنه يتصف بالتعقل والحكمة، ويحاول أن ينصف الإسلام والقيم الإسلامية، ويؤكد على أهمية العرب والمسلمين وفاعليتهم في تحقيق نظام عالمي جديد يحقق التعايش الدولي ويحقق الأمن والسلام للناس جميعًا، كما أن أقطابًا دولية أخرى أخذت تبحث وتضغط لتأخذ مكانًا لها في مواقع القرار الفعّال في المؤسسات الدولية، وأن الدافع أصبح واضح الأثر بين هذه القوى التي، تشكل بجملتها مخاضًا صعبًا وعسيرًا بين يدي بلورة واضحة لشكل ومضمون النظام العالمي الجديد، وأحسب أن هذا المخاض ستطول فترته، لأن أحداث كثيرة تحتاج إلى تسوية، وقضايا إقليمية متعددة يلزمها إعادة ترتيب بما ينسجم مع ما في أذهان بعض الجهات الدولية من توجهات لطبيعة النظام العالمي.. وهي غالبًا تتصادم مع توجهات أخرى تناقضها لدى البعض الآخر، وهذا أحسبه من الإيجابيات التي ينبغي الإفادة منها، وتسخير أسبابها لتؤدي الأمة الإسلامية مهمتها في التدافع الإنساني، الذي هوسنة من سنن الله تعالى في عمارة الأرض وصرف الفساد عنها وأمام هذا الواقع الانتقالي للمجتمعات الدولية، وأمام ما يكتنف هذا الواقع من تعقيد وتداخل، فماذا عسانا فاعلين نحن المسلمين؟ وما هي استعداداتنا للتعامل مع هذا الواقع؟ وما هو الممكن فعله مع ما نحن عليه من واقع لانحسد عليه..؟

       وبين يدى التعامل مع هذه التساؤلات الملحة، من قبل أجيال امتنا العربية والإسلامية بمكننا وبكل اختصار وتركيز القول:

       * نحسب «أولاً» أن العوامل المؤثرة في آليات تشكل النظام العالمي هي:

       1- العامل البشري .

       2- العامل الثقافي.

       3- العامل الاقتصادي.

       مع التأكيد على أن هذه العوامل الثلاثة «إقليميًا ودوليًا» متكاملة الموضوع والهدف في حركة أدائها ومتكاملة الفعل والأثر في إيجابيات عطائها.

       * ونعتقد «ثانيًا» أن الأمة أو الدولة، التي تحرص على مكانة مهيبة، وكلمة مسموعة، وتتطلع إلى مشاركة فعالة، ومقعد مقدر في مجالس المفاعلة والموازنات الدولية، عليها أن تسعى جادة لتحقيق المتانة والارتقاء في:

       1- أمنها الاجتماعي.

       2- أمنها الثقافي.

       3- أمنها الاقتصادي.

       * ويؤسفنا «ثالثًا» أن أمتنا العربية والإسلامية، لاتزال في معظم كياناتها السياسية تحتاج إلى كثير من الجهد والوقت لتتغلب على سلبيات واقعها الإقليمي (اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا)، مما يجعلها مجتمعة غير مؤهلة إلى حين لأداء مشاركة فعّالة دوليًا تليق بحقيقة قدراتها البشرية والاقتصادية والثقافية بين الأمم .

       * ولكننا نحسب «رابعًا» ورغم هذا الواقع الاستثنائي التي تمر به أمتنا أن جهات إقليمية من أمتنا لديها ما يمكنها – أخذًا بقاعدة فن الممكن بالموازنات السياسية – من أداء مشاركة فعالة في عمليات تشكيل وصياغة مقومات النظام العالمي، وأحسب أن المملكة العربية السعودية من خلال واقعها الأمني المرموق (إجتماعيًا وثقافيًا وإقتصاديًا)، واعتمادًا على علاقاتها الدولية وقدراتها السياسية والدبلوماسية المتميزة، مؤهلة لأن تقـدم للمجتمع الدولي مبادراتها للمساهمة في تحــديد معــالم النظام العــالمي) من خلال تجــربتها السياسيــة الناجحـــة إسلاميًا ودوليًا، وعبر تعاونها مع جهات عربية وإسلامية رسمية وثقافية معنية.

       * كما ونعتقد «خامسًا» أن أمتنا الإسلامية رغم ما تعانيه من واقع مؤلم جاهزة على الأقل من الناحية الثقافية، وعلى أساس من قيم الإسلام ومبائه العالمية وإعتمادًا على ما تكنزه من مخزون فقهي وفكري منقطع النظير. لتقدم المجتمع الدولي مشروع ميثاق عالمي يضمن للناس جميعًا:

       1- حق التعايش البشري مع اختلاف الأجناس والأعراق والأديان .

       2- العدل والرخاء للمجتمع الدولي.

       3- الأمن والسلام العالمي .

       * ونختم «سادسًا» بالتأكيد على ضرورة إنهاء ظاهرة التناقض الثقافي، واضطراب وحدة الخطاب السياسي في أوساط أمتنا السياسية والثقافية، تلك الظاهرة الخطيرة التي تشكل عامل استنزاف وإجهاض بقدراتها المتنوعة بين يدي تطلع أجيالها إلى مستقبل أفضل يعيد إليها مكانتها وخيريتها بين الأمم .

       وبعد وتأسيسًا على ما تقدم، وفي إطار نظرتنا إلى أن الإنسانية بأفرادها ومجتمعاتها الدولية تمر اليوم بحالة من اليقظة والتنبه، إلى خطورة التيه والضياع الذي عانته ولاتزال تعاني منه الأجيال البشرية بسبب من هجر القيم والمبادئ الربانية التي ارتضاها لهم ربهم وخالقهم سبحانه، وإلى خطورة التعامل مع وسائل الدمار والفناء الشامل التي أنتجتها منهجية السباق المجنون لامتلاكها، وتطوير مدى فعالية أثرها التدميري عبر قارات الأرض، وكذلك إلى خطورة الأوضاع المتدنية أمنيًا واقتصاديًا، بسب ابتلاع ميادين تكنولوجيا الموت لكل إمكانات الحياة الكريمة، وأتت على الحد الأدنى من احتياجاتها الضرورية، ونحسب أن هذا التنبه لما هي عليه حالة البشرية، وما يهدد أمنها واستقرارها وأصل وجودها، ولما يحرمها الحد الأدنى من متطلبات حياة أجيالها، قد بعث شيئًا من الإحساس بالمسؤولية عند عقلاء وحكماء الإنسانية هنا وهناك، فأخذت الأصوات ترتفع مطالبة بوضع حد لهذا التدهور الخطير لمسيرة الإنسانية في الأرض، حيث أخذت ميادين سباق التسلح تتقلص لصالح منهجية تخفيض امتلاك وسائله، ومعدلات إنتاج وسائل الدمار تتراجع لصالح معدلات إنتاج وسائل السلم والرفاهة، ولغة السلم والتعايش بدأت تتسلل إلى ساحات لغة الحرب والتدابر، وحوار الكلمة أخذ بالنمو على حساب استفحال حوار الصواريخ وباختصار فإن لغة الفضائل بدأت تتقدم على حساب لغة الرذائل. ولهجة العقل والقيم أخذت بتطريق نزوات لغة الحمق والنزق واللامسؤولية، وبعد:

       فيما هي مسؤوليتنا نحن المسلمين نحو هذه الظاهرة البشرية الإيجابية؟ وكيف يمكننا المساهمة في التأكيد على مادتها ودعم وتنمية اتجاهاتها..؟

(المصدر: مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبوند)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى