تقارير وإضاءات

الإسلام السياسي.. كيف رسم حسن البنا ملامحه كأيديولوجيا؟

الإسلام السياسي.. كيف رسم حسن البنا ملامحه كأيديولوجيا؟

إعداد موقع E-International Relations

مقدّمة 

تشير الأدلجة السياسية للإسلام إلى تفسير الإسلام على أنه “أيديولوجية سياسية”: “أي نظام شامل للأفكار من أجل العمل الاجتماعي والسياسي”[1]، والذي يُعدّ بمنزلة أداة وظيفية لترتيب الدولة والمجتمع، في حين أنه يبيّن أيضا كيف يمكن بناء هذا النظام الاجتماعي السياسي المثالي[2]. يعزو الباحثون هذا الميل إلى تفسير الإسلام على أنه أيديولوجية سياسية إلى المؤسس المصري لجماعة الإخوان المسلمين حسن البنا الذي عاش في القرن العشرين. بناء على ذلك، سيقيّم هذا المقال مدى ارتباط البنا بالأدلجة السياسية للإسلام في القرن العشرين.

نص التقرير

تأثّر البنا بتربية صوفية محافظة[3] في عصر الزحف الاستعماري على مصر والعالم الإسلامي، حيث تميّزت الفترة التكوينية من حياته بنقاش حاد حول هوية مصر في مطلع القرن العشرين[4]. فعلى الرغم من استقلال مصر الظاهر في عام 1922، استمرت الهيمنة الغربية بشكل ضمني عليها، وقد خبرها البنا مباشرة في الإسماعيلية. وشمل هذا التدخل أشكال الهيمنة الثقافية التي ظهرت في نزعة النخبة القومية المصرية إلى تبني أفكار علمانية وغربية على حساب المعتقدات والممارسات العرفية المرتبطة بالإسلام[5].

غرس الاتجاه اللاحق نحو “الإسلام المستعمَر، الخاضع الخانع الذي يقبل أن يُحصر في المجال الخاص”[6] -الذي جسّده إلغاء تركيا الكمالية للخلافة في عام 1924- غرس في البنا اعتقادا راسخا بأن الإسلام وبالتالي الهوية الإسلامية كانت مهددة من قِبَل “الشيطان الاستعماري”[7]. لكن هذا كان جزءا من نظرته إلى التاريخ الإسلامي على أنه تدهور مستمر من زمن “الإسلام الحقيقي” الذي مثّله الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والخلفاء الراشدون. بحسب البنا، أدى الانحراف عن هذا “الإسلام الحقيقي” إلى انحطاط المسلمين وإفساح الطريق أمام الغزو الغربي. ولذلك، أعلن البنّا أن الحل من أجل وقف تراجع المسلمين والتدخل الغربي يكمن في إحياء “الإسلام الحقيقي”. وهذا بالنسبة له يتطلب تنقية المعتقدات والممارسات الحالية للأمّة الإسلامية، والتي شدد البنا على أنه يجب إنجازها تدريجيا من خلال إقامة الدولة الإسلامية التي تصحح العقيدة، والتي تحفز الإصلاح وتطبّق الشريعة بالكامل.

حسن البنا (مواقع التواصل)

ومن الجدير بالملاحظة أن الحل السياسي الذي اقترحه البنا “شكّل علامة فارقة في الخطاب الإسلامي الحديث من خلال التحويل الناجح للإسلام إلى أيديولوجية [سياسية]”[8]، كأول دعوة لا لبس فيها في العالم الإسلامي لإنشاء دولة إسلامية[9]. وفقا لحمزة يوسف، فإن هذا يشكّل تحولا عن الاعتقاد السائد بين المسلمين أن “الإسلام هو وحي من الله”، وليس أيديولوجيا سياسية، وبالتالي لا يقدم حلا سياسيا في حد ذاته.

تكمن جذور نظرية البنا السياسية للإسلام في اقتناعه بأن الإسلام هو “نظام متكامل” يشمل “جميع جوانب الحياة الدنيا والآخرة”. بالنسبة للبنا، إن الدين نفسه يشكّل جزءا من “النظام الشامل للإسلام” الذي يجب أن يحكم كل أمور الحياة. أي إن الإسلام غير محصور بمسائل التقوى الشخصية، بل هو أيديولوجية وعبادة، بلد وأمة، دين ودولة، وعمل وإيمان، وسيف وقرآن، بحسب كتابات البنّا. لذلك يجب أن يتجسد الإسلام من خلال العمل الاجتماعي والسياسي المباشر باعتباره الأساس الأيديولوجي للمجتمع، واستنادا إلى قدرته الفريدة على توفير الحلول لجميع القضايا البشرية.

انبثق هذا الارتكاز الجوهري من تفسير البنا للربوبية والحاكمية لله في كل جوانب الحياة. ولقد انعكست دعوة البنا لحاكمية الله في كل جزء من المجتمع، انعكست حتى في حملته المبتكرة في الدعوة في المقاهي، والتي من خلالها تحوّل مكان للترفيه مثل المقهى إلى منصة للدعوة الإسلامية[10]. كما أن فهم البنا للربوبية قاده إلى تأويل القرآن الكريم كمصدر للسياسة وللفلسفة السياسية[11]. ولهذا السبب، جعل هذا التفسير من الإسلام أيديولوجية سياسية تتطلّب، إلى جانب حاكمية الله الشاملة، من الشريعة أن تقوم بتنظيم كل جوانب الدولة والمجتمع، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو عامة أو شخصية.

بما أن الإسلام، بالنسبة للبنا، هو أيديولوجية سياسية لا تسمح بالتمييز بين الدين والسياسة[12]، كان من الطبيعي أن يؤمن أن القرآن الكريم يعطي سلطة شرعية لـ “الحكم الإسلامي”. وعلى وجه التحديد، فإن نظام الحكم القائم على الحكم الدستوري وعلى الشورى هو “الأقرب إلى الإسلام” في رأي البنا.

إن شرعية السلطة السياسية هنا مشروطة بالتزام الحاكم بالشريعة، والدفاع عن الأمة ضد الهيمنة السياسية والنفسية ودعم “الدعوة الإسلامية”[13]. كما رفض البنا التعددية السياسية القائمة على الأيديولوجيا في ظل حكومة إسلامية، لأن هذا، في رأيه، يقوّض مبدأ الوحدة الإسلامية[14]. ومع ذلك، يجب الإشارة إلى أن البنا كان ينظر بشكل براغماتي إلى الدولة وكيفية حكمها كهدف ضروري ولكنه مرحلي، يمّهد للإصلاح ومن ثم الطريق نحو هدفه الأيديولوجي النهائي أي إعادة الخلافة الإسلامية.

يقدم بيان البنا “المطالب الخمسون” الذي يحتوي على مخططه الاجتماعي – السياسي، دليلا إضافيا على ميله إلى الأدلجة السياسية للإسلام كأداة وظيفية للهندسة الاجتماعية. أرسل البنّا تلك الوثيقة إلى الملك فاروق، وقدّم فيها برنامجا مفصلا للإصلاح المجتمعي من خلال “أسلمة” مصر من أعلى إلى أسفل بناء على مفهوم “الإسلام الحقيقي”. يتضمن البرنامج الشامل لدولته الإسلامية المتصورة إصلاحات سياسية وتعليمية وحتى اقتصادية، بما في ذلك الإصلاح المصرفي والتوزيع الصحيح للزكاة لمعالجة عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية. ولا يميز برنامجه بين المجالين العام والخاص، حيث يطالب بمراقبة موظفي الحكومة والمواطنين العاديين في المقاهي. يقترن ذلك بسياسة اجتماعية ثقافية لفرض “الأخلاق الإسلامية” من خلال فرض الرقابة على الأغاني والأفلام والكتب وحظر القمار والشرب والثياب الفاخرة.

كما يدعو بيان البنا إلى “تمصير” البلاد من أجل طرد “الروح الأجنبية” من منازل مصر، وهذا يناقض على ما يبدو نظريته الشاملة عن أن الإسلام، لا القومية المصرية، هو “العلاج” الأيديولوجي الشامل للأمراض الاجتماعية والسياسية في مصر. ومع ذلك، فإن هذا لا يقلل من المدى الذي يعبر فيه خطاب البنا عن الأدلجة السياسية للإسلام. وقد تعكس هذه الدعوة التمصيرية محاولة براغماتية من قبله للتحدث بشكل إستراتيجي مع جمهور حساس بشكل خاص للدعوات الوطنية[15]. في الواقع، فإن البنا كان أيضا يحاول إظهار عدم وجود أي تناقض بين الإسلام والقومية المصرية في دعوته فيقول بأن “فصل مصر عن الإسلام أمر مستحيل”، مما يسلط الضوء مرّة أخرى على تفسيره الأيديولوجي للإسلام الشامل لكل شيء.

هناك دلالة أخرى على الأدلجة السياسية للإسلام لدى البنا، تكمن في تأكيده على الاكتفاء الذاتي المطلق للإسلام إزاء الأيديولوجيات السياسية الأخرى. فيرى البنا أن “البديل الإسلامي” قد تخطى الاشتراكية والرأسمالية والقومية والعالمية، لأن الإسلام “يناسب جميع الأمم وكافة الأزمنة” وأنه لا يتجنب الاستعارة من أي نظام جيد بشرط ألا يتعارض مع مبادئه العامة. وبالتالي، فإن الحل لمشكلة الظلم الاجتماعي الاقتصادي المصري، والفصائلية السياسية والتبعية الثقافية يكمن بنظر البنا في شمولية القرآن[16]، وليس في الأيديولوجيات غير الإسلامية مثل الرأسمالية والماركسية.

من خلال تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928، أرسى البنا أيديولوجية سياسية طويلة الأمد للإسلام. فبهدف بناء نظامه الاجتماعي السياسي الإسلامي المثالي من خلال صراع أخلاقي تجديدي ضد الهيمنة الأجنبية، أسس البنا جماعة الإخوان المسلمين كحركة من شأنها “إعادة صياغة المعايير والقيم والممارسات المجتمعية لتكون أكثر إسلامية”[17]. وضّح البنا رؤيته للإسلام على أنه أيديولوجية سياسية تتطلب نشاطا اجتماعيا وسياسيا شاملا من خلال الحركة التي أسسها، حيث ينعكس ذلك بوضوح في تعريفه المتعدد الأوجه للإخوان المسلمين بأنها “دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وفكرة اجتماعية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية”، ونظام اجتماعي. فمن خلال زرع بذور “الحركة الإسلامية الإحيائية الأكثر تأثيرا في القرن العشرين”[18]، قام البنا بترسيخ تفسيره للإسلام على أنه طريقة حياة شاملة. ويستمرّ هذا الإرث الأيديولوجي اليوم من خلال العمل المستمر للإخوان المسلمين نحو تطبيق الشريعة باعتبارها العمود الفقري للدولة والمجتمع.[19]

ومع ذلك، وكما يلاحظ م. ز. حسين[20]، فإن “الأيديولوجية السياسية للإسلام ليست كتلة متجانسة أو جامدة، ولكنها متعددة المراجع، وتعددية ومتعددة الأوجه”. على هذا النحو، فإنه من الخطأ وصف البنا بأنه يمثل المصدر الوحيد للأيديولوجية السياسية للإسلام والنظر إلى فكره بمعزل عن المفكرين “الإسلاميين” الآخرين الذين يفسرون أيضا الإسلام على أنه أيديولوجية سياسية. على سبيل المثال، يقول هارتونغ إن المفكر الهندي المسلم من القرن العشرين ومؤسس الجماعة الإسلامية أبو الأعلى المودودي قد يكون أول من حاول بشكل منهجي إعادة تعريف الإسلام على أنه أيديولوجية سياسية و”نظام حياة ثابت ومستقل ذاتيا”. انبثقت هذه الرؤية من تفسير المودودي للإسلام على أنه “نظام شامل” و”مكتمل” يتوافق مع النظام الإلهي للكون. كانت هذه هي النظرة نفسها لسيد قطب، وهو أحد الإخوان المسلمين الذين برزوا في وقت لاحق، والذي استوحى أفكار البنا وتشدّد فيها، حيث رأى أن الإسلام هو أيديولوجية سياسية كاملة[21]وبالتالي تبنى نظاما إسلاميا سياسيا كحل نهائي للتحديات المختلفة التي واجهها العالم ذو الأغلبية المسلمة[22]. لذا من الضروري أن نفهم فكر البنا كأحد المساهمات في الاتجاه الموضح أعلاه نحو “الإحياء الجديد” في القرن العشرين، والتي تتشارك كلها في تبني فكرة “الاكتفاء الذاتي الكامل للإسلام”[23] والدعوة إلى التحول المجتمعي على أساس شكل “أنقى” للإسلام كان موجودا في الماضي، من أجل مواجهة الهيمنة الغربية.

ومن المهم بالقدر نفسه أن نقدر الروابط بين الأيديولوجية السياسية الإسلامية لدى البنا وبين أفكار المفكرين الإحيائيين-الجدد الآخرين، المعاصرين له واللاحقين. يوضح إيوبين وزمان هذه النقطة بوضوح، فيقولان بأن “العديد من المواقف والحجج المرتبطة بقطب والمودودي والخميني هي تعبير منهجي لنظرة معيّنة حول العالم معالمها موجودة بوضوح في نموذج… الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي الذي تركه البنا وراءه”. في ضوء هذه الملاحظة الصحيحة، لا يمكن تصور مفهوم البنا للإسلام كنظام للأفكار لإعادة تشكيل المجتمع بأسره على أنه فقط أدلجة سياسية للإسلام، بل يمكن أيضا تصويره، في بعض النواحي، على أنه يجسد النزعة لإحياء الإسلام نفسه، ومن ضمن ذلك أدلجة الإسلام سياسيا.

في الختام، فإن فكرة البنا هي مرادف الأدلجة السياسية للإسلام في القرن العشرين. فمن خلال تفسير الإسلام كنظام شامل للأفكار والحل النهائي الذي يجب تطبيقه وظيفيا لترتيب كل وجه من جوانب الدولة والمجتمع والوجود الإنساني بشكل أوسع، يجسد خطاب البنا المبتكر بوضوح فهما للإسلام على أنه أيديولوجية سياسية شاملة. ويتجلى ذلك بشكل خاص من خلال تأكيدات البنا على أن الإسلام هو الأساس الضروري لحوكمة الدولة، وأداة وظيفية للهندسة الاجتماعية، وبديل للأيديولوجيات السياسية المنافسة. والأهم من ذلك هو أن تأسيس البنا للإخوان المسلمين ضمّن أيضا تجسيدا مستمرا لرؤيته للإسلام باعتباره نظاما شاملا ينظم الحياة الفردية والشؤون العامة. ومع ذلك، يظل من المهم رؤية مساهمة البنا المؤثرة في إطار الميل الأوسع لدى تيار الإحيائية الإسلامية الجديدة إلى أدلجة الإسلام سياسيا من أجل معالجة ضعف المسلمين المتصور إزاء الهيمنة الغربية.

————————————————————–

ترجمة: كريم طرابلسي

هذا التقرير مترجم عن (E-International Relations) ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى